الخميس، 8 أبريل 2021

محاربة فرنسا للوقف "رهان على تجهيل الشعب الجزائري وطمس معالم الحضارة"

 فرنسا ورهان نشر الأمية بالجزائر

محاربة فرنسا للوقف "رهان على تجهيل الشعب الجزائري وطمس معالم الحضارة"

محمد صالح   2021/04/06

https://www.djelfa.info/ar/contributions/12805.html

باسدال الستار عن الحقبة العثمانية بالجزائر واحتلال فرنسا الصليبية لها، راهنت هاته الأخيرة منذ أن وطئت أقدامها أرض الجزائر على المدرسة في نشر ثقافتها، بهدف إخضاع الجزائريين وتحقيق الاحتلال الشامل، حيث شرع الاستعمار الفرنسي منذ دخوله أرض الجزائر في عملية مصادرة وتخريب الأراضي الوقفية والاستيلاء على العديد منها وكافة الأملاك التابعة للأوقاف كالمساجد والمكتبات التي لها قدسية خاصة بالنسبة للجزائريين، وفقا لسياستها وعقيدتها الصليبية التي انطلقت منها، وهو ما يؤكده قول الكاردينال لافيجري (Lavigerie): "إن عهد الهلال في الجزائر قد ولى وقُبر، وأن عهد الصليب بدأ، وأنه يستمر إلى الأبد، وأن علينا أن نجعل أرض الجزائر مهدا لدولة مسيحية مضاءة أرجاؤها بنور مدينة منبع وحيها من الإنجيل" (حمدان خوجة، المرآة، ص74)، حيث عملت سلطات الاحتلال إلى تقويض مؤسسات الوقف التي كانت ذات تأثير كبير والتي تلعب دورا هاما في الحفاظ على مقومات المجتمع الإسلامي.

image

مسجد السيدة الأثري بالعاصمة


 وأكد أبو القاسم سعد الله بأن الاستعمار الفرنسي للجزائر جاء بالسلاح والعلم، "فحققوا الاحتلال والاستعمار والاستيطان بالسلاح والجيوش، وحققوا نشر لغتهم ودينهم وعاداتهم وصحافتهم ...بالعلم والاختراع" (عبد الحميد عومري، الحياة الثقافية والفكرية في الجزائر 1880-1914، ص26)، فيما أكد تقرير الجنرال دوكرو إلى نابيلون الثالث بالقول: "لنعرقل ما استطعنا تطور المدارس الإسلامية والزوايا...وبكلمة أوضح نسعى إلى تجريد الشعب الجزائري من السلاح المادي والمعنوي" (عبد الحميد عومري، المرجع نفسه، ص26)، والمتمثل في المؤسسات الوقفية ودور العبادة والتعليم كالمساجد والكتاتيب والزوايا.

وقد جعلت فرنسا من هدم مؤسسات الوقف والتحكم فيه هدفا لها من أجل تركيع الشعب الجزائري وتجهيله وجعله متوحشا، وهذا ما ذهبت إليه لجنة لاسيكوتيار بالقول: "لقد وضعنا أيدينا على أموال الوقف الموجهة للصرف على التعليم والأعمال الخيرية، قضينا على مدارس كانت موجودة وشتتنا مجامع العلماء، لقد أطبق الظلام في كل مكان حللنا فيه، لقد جعلنا المجتمع الإسلامي أكثر توحشا وبربرية مما كان عليه قبل أن يعرفنا".

أ.محمد صالح

ففُرضت قوانين جائرة على أبناء الشعب الجزائري لسلبهم شخصيتهم، فكان منها قرار دي بورمون (Louis de Bourmont) الصادر يوم 8 سبتمبر 1830 أي بعد حوالي شهرين من دخول فرنسا الجزائر، والقاضي بــ"مصادرة الأوقاف الإسلامية والاستيلاء عليها كما يستهدف حجز أملاك العثمانيين ثم أوقاف مكة والمدينة وإلحاقها بمصلحة الدومين وحدد القرار ثلاثة أيام لعملية الاستظهار وإثبات الملكية وأن السلطة ستعاقب كل من تحداها بدون انتظار" (حمدان خوجة، المرآة، ص74) وهو القرار الذي سيحرم الكثير من أبناء الأيالة من مداخيل هاته الأوقاف.  

إجراءات و قرارات...

إلى جانب ضم فرنسا لكافة أوقاف الجامع الأعظم إليها والتي تتكون من 125 منزلا و39 حانوتا وأفران و19 بستانا و107 إيرادا، "ومع بداية الاحتلال استولى الجيش الفرنسي على 114 منزلا و60 مسجدا و55 بناية تابعة لأعمال البر التي تكلفت بها المدينتان الشريفتان مكة المكرمة والمدينة المنورة والتي كانت تخضع لولاء الدولة العثمانية" (محمود باش محمد الاستيلاء على إيالة الجزائر، ص 84) وبهاته الإجراءات تكون فرنسا قد ألغت الدور الفعال التي كانت تؤديه هاته الأوقاف داخل المجتمع، "فمعظم هذه الأوقاف قد خرجت أو ألحقت بمصالح الدولة الفرنسية بعد الاحتلال مباشرة" (أبو القاسم سعد الله، المرجع السابق، ص 239).

 فإلى جانب تهديم المساجد عمدت إلى جعل بعضها الآخر ككنائس ومراكز تأوي للحيوانات "فالحكومة الفرنسية قد هدمت الكثير من المساجد...وهناك مساجد أخرى فقدت وظيفتها القديمة فأصبح المسجد مسرحا وآخر مخزنا للتبن وثالث ثكنة" (أبو العيد دودو، الجزائر في عيون الرحالة الألمان، ص 33)، حيث اعتبر فاغنر (Faghnir) ما أقدمت عليه الحكومة الفرنسية أمرا لا يغتفر بقوله" هكذا اعتدت فرنسا على حرمات المسلمين، وذلك ما لن يغفره لها الجزائريون ولن ينسوه أبدا، مشيرا إلى أن عدد المدراس قبل دخول الفرنسيين كان مرتفعا، فقد بلغ حوالي 100 مدرسة، لم يبق منها اليوم سوى النصف تقريبا" (أبو العيد دودو، المرجع نفسه، ص 33).

واستمرت فرنسا في سياسة محاربة الوقف وتجفيف منابعه بحجز الأملاك ومصادرتها، دون مراعاة لحرمتها وقدسيتها لدى المسلمين، وهو ما يؤكده تقرير لجنة البحث الرسمية، التي بعث بها ملك فرنسا لاطلاع البرلمان على حقيقة ما وقع بالجزائر من مظالم "إننا قد ضممنا إلى ممتلكات الدولة، سائر عقارات الأوقاف الإسلامية، ووضعنا تحت الحجز ممتلكات طائفة من السكان تعهدنا لها باحترام أشخاصها وممتلكاتها، وبدأنا أعمالنا في ميدان السلطة بمظلمة، بإرغام الناس على المشاركة في قرض إجباري (مائة ألف فرنك) واستولينا على ممتلكات خاصة، دون أن ندفع مقابلها أي تعويض بل قد أجبرناهم على دفع نفقات تهديمها، كما أجبرناهم على دفع نفقات تهديم مسجد "السيدة" (وكان من بدائع الفن المعماري الإسلامي في مدينة الجزائر)، ولقد اعتدينا دون أي مراعاة على حرمة الأضرحة والزوايا والمساجد والمنازل الخاصة التي تعتبر مقدسة على المسلمين" (أحمد توفيق المدني، هذي هي الجزائر ص92)، "لجنة البحث نوفمبر ديسمبر 1833" وهي أعمال تظهر وحشية الاستعمار الفرنسي، وقد حمل سجل مذكرات مجلس الأمة الفرنسي قول أحد نواب فرنسا أثناء مناقشة هذا التقرير "أننا قد ارتكبنا في ثلاثة أشهر، من الفضائع وأعمال التنكيل، أكثر مما نُسب للأتراك خلال ثلاثمائة سنة" (أحمد توفيق المدني، نفسه، ص 93). 

ورغم استمرار تدريس العلوم في مختلف المساجد والزوايا إلا أن الحالة العلمية قد لحقها ارتباك كبير بسبب سياسة الاحتلال، وهجرة العلماء وتشتت كثير من أهل القبائل والقرى، فقد ذكر ديفوكس ألبرت (Albert devoulx) في بحثه بالمجلة الإفريقية حول البنايات الدينية أن عدد المؤسسات الثقافية والدينية مابين 1830 و 1862 تناقص كثيرا فبعد أن كانت بمدينة الجزائر لوحدها 176 مؤسسة منها 122 مسجدا و22 زواية و32 مصلى عشية دخول الاحتلال تراجع هذا العدد إلى 47 مؤسسة فقط منها 28 مسجدا و6 زوايا و13 مصلى.

محاربة المؤسسات الوقفية والتعليمية...

إن محاربة فرنسا للمؤسسات الوقفية والتعليمية كالمساجد يعكس حالة التطور التي كان يعيشها المجتمع الجزائري قبيل احتلاله، فانتشار المدارس والمعاهد والزوايا في مختلف نواحي الجزائر خلال تلك الفترة، دليل على أن الحياة الفكرية والثقافية كانت مزدهرة بها، وهذا بشهادة العديد من الرحالة الألمان والجنود الفرنسيين وحتى جنرالاتها، حيث يقول الرحالة الألماني فيلهام شيمبر (Wilhelm Schimper1804-1878):"لقد بحثت قصدا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة، غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب.." (أبو العيد دودو، المرجع السابق، ص 13).

فيما يؤكد من جهة أخرى على تطور الجزائري حتى في الصناعة والحرف التقليدية قائلا "بإمكان الاسكافي الأوروبي أن يذهب إلى الجزائر ليتعلم كيف تصنع الأحذية" (أبو العيد دودو، المرجع السابق، ص 19)، أما الجنرال فالز (General falz) فيقول متحدثا عن سنة 1834م "إن كل العرب (الجزائريين) تقريبًا يعرفون القراءة والكتابة، حيث إن هناك مدرستين في كل قرية"، ويؤيده في ذلك الجنرال ولسن وسترهازي (Walson Westerhazy) الذي جاء على لسانه "إن الجزائريين الذين يحسنون القراءة والكتابة كانوا في ذلك العهد أكثر من الفرنسيين الذين كانوا يقرؤون ويكتبون، إن 45 بالمئة من الفرنسيين كانوا أميين آنذاك وأن الجزائر احتلها جنود من طبقة جاهلة كل الجهل" (بخوش صبيحة، وضعية التعليم في الجزائر في العهد العثماني، ص135).

ونفس المنحى ذهب إليه الباحث مبارك الميلي بقوله: "وقد شهد عدة فرنسيين شاهدوا الجزائر خلال فترة الاحتلال، بأن الأمية كانت منعدمة تقريبا في الجزائر، وأن سكان الجزائر قد يكونون أكثر ثقافة من سكان فرنسا، فكل الناس تقريبا يعرفون القراءة والحساب كما يقول روزي" (مبارك الميلي، المرجع السابق، ص317)، بل والأكثر من ذلك يؤكد أبو القاسم سعد الله بأن المدن الجزائرية كانت وعلى رأسها العاصمة مضرب المثل في النظافة والأمن وكثرة الحدائق وبهاء الدور ووفرة المياه، فإذا بها تصبح بعد الاحتلال بسنوات قليلة مضرب المثل في الأوساخ وانتشار الأمراض المعدية والفساد الأخلاقي والفوضى وانعدام الأمن، وها هو النائب (دي صاد) يقول لزملائه في البرلمان سنة 1834 إن الجزائر كانت مليئة بالحدائق والمحلات الجميلة ولكنها الآن (أي بعد أربع سنوات) أصبحت جميعا خرائب وحتى أنابيب المياه التي تسقي المدينة قد خربت. 

عامل تخريب وهدم...

لقد شكل عامل الاستعمار عامل تخريب وهدم لكل مقومات الجزائر الثقافية والتعليمية والفكرية، فتعرضت مؤسساتها لمحاربة شديدة من قبل المستعمر الفرنسي بمختلف الطرق والوسائل وفي مقدمتها المؤسسات الوقفية التي كانت تقوم بوظائف هامة في المجتمع وهذا بهدف محاصرتها، في مقابل نشر لغتها وعقيدتها المسيحية، وهو ما أكده لويس ماشويل (Louis Machuel) في أن "الإدارة الاستعمارية كانت ترى في كل المدارس الإسلامية معاقل تطرف ديني فيتم تدميرها من دون حساب لنتائج ذلك".

ما من شك في أن الأوقاف لعبت دورا هاما في بعث الحركة الثقافية والتعليمية في كافة المدن الجزائرية من خلال تشييد المدارس والمساجد والزوايا وصيانتها ورعاية شؤون الطلبة والمدرسين والعلماء، الأمر الذي مكن من محاربة الجهل والأمية في أوساط الجزائريين، حيث كانت نسبة الأمية ضئيلة في الجزائر عشية الاحتلال الفرنسي، فقد كانت مشكلة التعليم من أخطر ما فكر به الاحتلال سعيا منه لضرب الجزائريين في أصالتهم بطمس الهوية الجزائرية والقضاء على الشخصية الوطنية التي تستمد قوتها من اللغة العربية والدين الإسلامي، بسن قوانين جائرة للاستيلاء على الأوقاف الإسلامية الذي ترتكز عليه كافة المؤسسات الدينية والتعليمية في العهد العثماني وضمها إلى إدارته والتحكم فيه وفق عقيدته الصليبية بموجب قرارت جائرة منها قرار كلوزيل (Clauzel) 712/1830 و قرار1844.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق